الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)
.فصل: في الحكم على الشيء مقيدا بصفة: وَقَدْ يُحْكَمُ عَلَى الشَّيْءِ مُقَيَّدًا بِصِفَةٍ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ مَا سُكِتَ عَنْهُ بِخِلَافِهِ وَقَدْ يكون مِثْلَهُ فَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عدل منكم} وقوله: {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} وقوله: {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم}؛ فَاشْتَرَطَ أَوْلَادَ الصُّلْبِ تَنْبِيهًا عَلَى إِبَاحَةِ حَلَائِلِ أبناء الرَّضَاعِ وَلَيْسَ فِي ذِكْرِ الْحَلَائِلِ إِبَاحَةُ مَنْ وَطِئَهُ الْأَبْنَاءُ مِنَ الْإِمَاءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَهَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا اجْتَمَعَ فِيهِ النَّوْعَانِ أَعَنِي الْمُخَالَفَةَ وَالْمُمَاثَلَةَ.وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائهن ولا أبنائهن} الْآيَةَ، فِيهِ وُقُوعُ الْجُنَاحِ فِي إِبْدَاءِ الزِّينَةِ لِمَنْ عَدَا الْمَذْكُورِينَ مِنَ الْأَجَانِبِ وَلَمْ يَكُنْ فيه إبداؤها لِقَرَابَةِ الرَّضَاعِ.وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الصَّيْدِ: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قتل من النعم} فإن القتل إتلاف والإتلاف عَمْدُهُ وَخَطَؤُهُ فَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ التَّعَمُّدَ لَيْسَ بِشَرْطٍ.فَإِنْ قِيلَ: فَمَا فَائِدَةُ التَّقْيِيدِ فِي هَذَا الْقِسْمِ إِذَا كَانَ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ مِثْلَهُ وَهَلَّا حُذِفَتِ الصِّفَةُ وَاقْتُصِرَ عَلَى قَوْلِهِ: {ومن قتله منكم}؟قُلْنَا: لِتَخْصِيصِ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ فَوَائِدُ: مِنْهَا اخْتِصَاصُهُ فِي جِنْسِهِ بِشَيْءٍ لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ جُمْلَةِ الْجِنْسِ؛ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ-أَعْنِي قَوْلَهُ: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا}.إلى قوله: {فينتقم الله منه} إِنَّ الْمُتَعَمِّدَ إِنَّمَا خُصَّ بِالذِّكْرِ لِمَا عُطِفَ عَلَيْهِ فِي آخِرِ الْآيَةِ مِنَ الِانْتِقَامِ الَّذِي لَا يَقَعُ إِلَّا فِي الْعَمْدِ دُونَ الْخَطَأِ.وَمِنْهَا مَا يُخَصُّ بِالذِّكْرِ تَعْظِيمًا لَهُ عَلَى سَائِرِ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تظلموا فيهن أنفسكم} فَخَصَّ النَّهْيَ عَنِ الظُّلْمِ فِيهِنَّ وَإِنْ كَانَ الظُّلْمُ مَنْهِيًّا عَنْهُ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ تَفْضِيلًا لِهَذِهِ الْأَشْهُرِ وَتَعْظِيمًا لِلْوِزْرِ فِيهَا. وَقَوْلِهِ: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}.وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَصْفُ هُوَ الْغَالِبَ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} الْآيَةَ فَإِنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَالِ الرَّبِيبَةِ أَنَّهَا تكون في حجر أمها. ونحو: {يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم} إِلَى قَوْلِهِ: {ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} الْآيَةَ خَصَّ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةَ بِالِاسْتِئْذَانِ لِأَنَّ الْغَالِبَ تَبَذُّلُ الْبَدَنِ فِيهِنَّ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ مَا يُوجِبُ الِاسْتِئْذَانَ فَيَجِبُ.وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَإِنْ خفتم ألا يقيما حدود الله} فالافتداء يجوز مع الأمر. وَقَوْلُهُ: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إن خفتم} وَقَوْلُهُ: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتبا فرهان مقبوضة} فَجَرَى التَّقْيِيدُ بِالسَّفَرِ؛ لِأَنَّ الْكَاتِبَ إِنَّمَا يُعْدَمُ غَالِبًا فِيهِ وَلَا يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ الرَّهْنِ إِلَّا فِي السَّفَرِ كَمَا صَارَ إِلَيْهِ مُجَاهِدٌ..النَّوْعُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ: فِي مَعْرِفَةِ جَدَلِهِ: وَقَدْ أَفْرَدَهُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ بِالتَّصْنِيفِ الْعَلَّامَةُ نَجْمُ الدِّينِ الطُّوفِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.اعْلَمْ أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ قَدِ اشْتَمَلَ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْبَرَاهِينِ وَالْأَدِلَّةِ وَمَا مِنْ بُرْهَانٍ وَدَلَالَةٍ وَتَقْسِيمٍ وَتَحْدِيدِ شَيْءٍ مِنْ كُلِّيَّاتِ الْمَعْلُومَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ إِلَّا وَكِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ نَطَقَ بِهِ لَكِنْ أَوْرَدَهُ تَعَالَى عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ دُونَ دَقَائِقِ طُرُقِ أَحْكَامِ الْمُتَكَلِّمِينَ لِأَمْرَيْنِ:أَحَدُهُمَا: بِسَبَبِ مَا قاله: {وما وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ ليبين لهم}. الْآيَةَ.وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَائِلَ إِلَى دَقِيقِ الْمُحَاجَّةِ هُوَ الْعَاجِزُ عَنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ بِالْجَلِيلِ مِنَ الْكَلَامِ فَإِنَّ مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يُفْهِمَ بِالْأَوْضَحِ الَّذِي يَفْهَمُهُ الْأَكْثَرُونَ لَمْ يَتَخَطَّ إِلَى الْأَغْمَضِ الَّذِي لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا الْأَقَلُّونَ وَلَمْ يَكُنْ مُلْغِزًا فَأَخْرَجَ تَعَالَى مُخَاطَبَاتِهِ فِي مُحَاجَّةِ خَلْقِهِ فِي أَجَلِّ صُورَةٍ تَشْتَمِلُ عَلَى أَدَقِّ دَقِيقٍ لِتَفْهَمَ الْعَامَّةُ مِنْ جَلِيلِهَا مَا يُقْنِعُهُمْ وَيُلْزِمِهُمُ الْحُجَّةَ وَتَفْهَمُ الْخَوَاصُّ مِنْ أَثْنَائِهَا مَا يُوفَّى على ما أدركه فهم الخطباء.وَعَلَى هَذَا حُمِلَ الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ: «إِنَّ لِكُلِّ آيَةٍ ظَهْرًا وَبَطْنًا وَلِكُلِّ حَرْفٍ حَدًّا وَمَطْلَعًا» لَا عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْبَاطِنِيَّةُ وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ كُلُّ مَنْ كَانَ حَظُّهُ فِي الْعُلُومِ أَوْفَرَ كَانَ نَصِيبُهُ مِنْ عِلْمِ الْقُرْآنِ أَكْثَرَ وَلِذَلِكَ إِذَا ذَكَرَ تَعَالَى حُجَّةً عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ أَتْبَعَهَا مَرَّةً بِإِضَافَتِهِ إِلَى أُولِي الْعَقْلِ وَمَرَّةً إِلَى السَّامِعِينَ وَمَرَّةً إِلَى الْمُفَكِّرِينَ وَمَرَّةً إِلَى الْمُتَذَكِّرِينَ تَنْبِيهًا أَنَّ بِكُلِّ قُوَّةٍ مِنْ هَذِهِ الْقُوَى يُمْكِنُ إِدْرَاكُ حَقِيقَتِهِ مِنْهَا وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِهِ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لقوم يعقلون} وَغَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ.وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ يَظْهَرُ مِنْهُ بِدَقِيقِ الْفِكْرِ اسْتِنْبَاطُ الْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى طُرُقِ الْمُتَكَلِّمِينَ فَمِنْ ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ بِتَغَيُّرِ الصِّفَاتِ عَلَيْهِ وَانْتِقَالِهِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَهُوَ آيَةُ الْحُدُوثِ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي احْتِجَاجِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السلام استدلاله بحدوث الأقل عَلَى وُجُودِ الْمُحْدِثِ وَالْحُكْمِ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِحُكْمِ النَّيِّرَاتِ الثَّلَاثِ وَهُوَ الْحُدُوثُ طَرْدًا لِلدَّلِيلِ فِي كُلِّ مَا هُوَ مَدْلُولُهُ لِتَسَاوِيهَا فِي عِلَّةِ الْحُدُوثِ وَهِيَ الْجُسْمَانِيَّةُ.وَمِنْ ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّ صَانِعَ الْعَالَمِ وَاحِدٌ بِدَلَالَةِ التَّمَانُعِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلْعَالَمِ صَانِعَانِ لَكَانَ لَا يَجْرِي تَدْبِيرُهُمَا عَلَى نِظَامٍ وَلَا يَتَّسِقُ عَلَى إِحْكَامٍ وَلَكَانَ الْعَجْزُ يَلْحَقُهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا وَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا إِحْيَاءَ جِسْمٍ وَأَرَادَ الْآخَرُ إِمَاتَتَهُ فَإِمَّا أَنْ تُنَفَّذَ إِرَادَتُهُمَا فَتَتَنَاقَضَ لِاسْتِحَالَةِ تجزؤ الْفِعْلُ إِنْ فُرِضَ الِاتِّفَاقُ أَوْ لِامْتِنَاعِ اجْتِمَاعِ الضِّدَّيْنِ إِنْ فُرِضَ الِاخْتِلَافُ.وَإِمَّا لَا تُنَفَّذُ إِرَادَتُهُمَا فَيُؤَدِّيَ إِلَى عَجْزِهِمَا أَوْ لَا تُنَفَّذُ إِرَادَةُ أَحَدِهِمَا فَيُؤَدِّيَ إِلَى عَجْزِهِ وَالْإِلَهُ لَا يَكُونُ عَاجِزًا.وَمِنْ ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْمَعَادِ الْجُسْمَانِيِّ بِضُرُوبٍ:أَحَدُهَا: قِيَاسُ الْإِعَادَةِ عَلَى الِابْتِدَاءِ قَالَ تَعَالَى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تعودون} {كما بدأنا أول خلق نعيده} {أفعيينا بالخلق الأول}.ثَانِيهَا: قِيَاسُ الْإِعَادَةِ عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى نَحْوُ: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أن يخلق مثلهم} {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ}.ثَالِثُهَا: قِيَاسُ الْإِعَادَةِ عَلَى إِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا بِالْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ وَهُوَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ذُكِرَ فِيهِ إِنْزَالُ الْمَطَرِ غَالِبًا نَحْوُ: {وَيُحْيِي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون}.رَابِعُهَا: قِيَاسُ الْإِعَادَةِ عَلَى إِخْرَاجِ النَّارِ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ لَمَّا جَاءَ بِعِظَامٍ بَالِيَةٍ فَفَتَّهَا وَذَرَّهَا في الهواء وقال: يا محمد من يحي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خلق عليم}.فَعَلَّمَ سُبْحَانَهُ كَيْفِيَّةَ الِاسْتِدْلَالِ بِرَدِّ النَّشْأَةِ الْأُخْرَى إِلَى الْأَوْلَى وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِعِلَّةِ الْحُدُوثِ ثُمَّ زَادَ فِي الْحِجَاجِ بِقَوْلِهِ: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ من الشجر الأخضر نارا}.وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ فِي رَدِّ الشَّيْءِ إِلَى نَظِيرِهِ وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ تَبْدِيلُ الْأَعْرَاضِ عَلَيْهِمَا.خَامِسُهَا: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ}.وَتَقْرِيرُهَا كَمَا قَالَهُ ابْنُ السَّيِّدِ: إِنَّ اخْتِلَافَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْحَقِّ لَا يُوجِبُ انْقِلَابَ الْحَقِّ فِي نَفْسِهِ وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ الطُّرُقُ الْمُوصِلَةُ إِلَيْهِ وَالْحَقُّ فِي نَفْسِهِ وَاحِدٌ فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ هَاهُنَا حَقِيقَةً مَوْجُودَةً لَا مَحَالَةَ وَكَانَ لَا سَبِيلَ لَنَا فِي حَيَاتِنَا هَذِهِ إِلَى الْوُقُوفِ عَلَيْهَا وُقُوفًا يُوجِبُ الِائْتِلَافَ وَيَرْفَعُ عَنَّا الِاخْتِلَافَ إِذْ كَانَ الِاخْتِلَافُ مَرْكُوزًا فِي فِطَرِنَا وَكَانَ لَا يُمْكِنُ ارْتِفَاعُهُ وَزَوَالُهُ إِلَّا بِارْتِفَاعِ هَذِهِ الْجِبِلَّةِ وَنَقْلِهَا إِلَى جِبِلَّةٍ غَيْرِهَا صَحَّ ضَرُورَةً أَنَّ لَنَا حَيَاةً أُخْرَى غَيْرَ هَذِهِ الْحَيَاةِ فِيهَا يَرْتَفِعُ الْخِلَافُ وَالْعِنَادُ وَهَذِهِ هِيَ الْحَالُ الَّتِي وَعَدَ اللَّهُ بِالْمَصِيرِ إِلَيْهَا فَقَالَ: {وَنَزَعْنَا ما في صدورهم من غل}، ولابد مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ بِاضْطِرَارٍ إِذْ كَانَ جَوَازُ الْخِلَافِ يَقْتَضِي الِائْتِلَافَ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْمُضَافِ وكان لابد مِنْ حَقِيقَتِهِ فَقَدْ صَارَ الْخِلَافُ الْمَوْجُودُ كَمَا تَرَى أَوْضَحَ دَلِيلٍ عَلَى كَوْنِ الْبَعْثِ الَّذِي ينكره المنكرون..النَّوْعُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: مَعْرِفَةُ نَاسِخِهِ مِنْ مَنْسُوخِهِ: وَالْعِلْمُ بِهِ عَظِيمُ الشَّأْنِ وَقَدْ صَنَّفَ فِيهِ جَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ مِنْهُمْ قَتَادَةُ بْنُ دِعَامَةَ السُّدُوسِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ وَأَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ وَهِبَةُ اللَّهِ بْنُ سَلَّامٍ الضَّرِيرُ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَمَكِّيٌّ وَغَيْرُهُمْ.وَمِنْ ظَرِيفِ مَا حُكِيَ فِي كِتَابِ هِبَةِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وأسيرا} مَنْسُوخٌ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ {وَأَسِيرًا} وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَسِيرُ الْمُشْرِكِينَ فَقُرِئَ الْكِتَابُ عَلَيْهِ وَابْنَتُهُ تَسْمَعُ فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ قَالَتْ: أَخْطَأْتَ يَا أَبَتِ فِي هَذَا الْكِتَابِ! فَقَالَ لَهَا: وَكَيْفَ يَا بُنَيَّةُ! قَالَتْ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْأَسِيرَ يُطْعَمُ وَلَا يُقْتَلُ جُوعًا.قَالَ الْأَئِمَّةُ: وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُفَسِّرَ كِتَابَ اللَّهِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَعْرِفَ مِنْهُ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ وَقَدْ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لِقَاصٍّ: أَتَعْرِفُ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ؟ قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ: هَلَكْتَ وَأَهْلَكْتَ.وَالنَّسْخُ يَأْتِي بِمَعْنَى الْإِزَالَةِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشيطان ثم يحكم الله}.وَيَأْتِي بِمَعْنَى التَّبْدِيلِ كَقَوْلِهِ: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مكان آية}.وَبِمَعْنَى التَّحْوِيلِ كَتَنَاسُخِ الْمَوَارِيثِ- يَعْنِي تَحْوِيلَ الْمِيرَاثِ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى وَاحِدٍ.وَيَأْتِي بِمَعْنَى النَّقْلِ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ وَمِنْهُ: (نَسَخْتُ الْكِتَابَ) إِذَا نَقَلْتَ مَا فِيهِ حَاكِيًا لِلَفْظِهِ وَخَطِّهِ. قَالَ مَكِّيٌّ: وَهَذَا الْوَجْهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ وَأُنْكِرُ عَلَى النَّحَّاسِ إِجَازَتُهُ ذَلِكَ مُحْتَجًّا بِأَنَّ النَّاسِخَ فِيهِ لَا يَأْتِي بِلَفْظِ الْمَنْسُوخِ وَإِنَّمَا يَأْتِي بِلَفْظٍ آخَرَ وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ بَرَكَاتٍ السعدي يَشْهَدُ لِمَا قَالَهُ النَّحَّاسُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون} وَقَالَ: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حكيم} وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا نَزَلَ مِنَ الْوَحْيِ نُجُومًا جَمِيعُهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ وَهُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ كَمَا قَالَ: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إلا المطهرون}.ثُمَّ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فَقِيلَ الْمَنْسُوخُ مَا رُفِعَ تِلَاوَةُ تَنْزِيلِهِ كَمَا رُفِعَ الْعَمَلُ بِهِ وَرُدَّ بِمَا نَسَخَ اللَّهُ مِنَ التَّوْرَاةِ بِالْقُرْآنِ وَالْإِنْجِيلِ وَهُمَا مَتْلُوَّانِ.وَقِيلَ: لَا يَقَعُ النَّسْخُ فِي قُرْآنٍ يُتْلَى وَيُنَزَّلُ وَالنَّسْخُ مِمَّا خَصَّ اللَّهُ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ فِي حُكْمٍ مِنَ التَّيْسِيرِ وَيَفِرُّ هَؤُلَاءِ مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ يَنْسَخُ شَيْئًا بَعْدَ نُزُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَهَذَا مَذْهَبُ الْيَهُودِ فِي الْأَصْلِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ بَدَاءٌ كَالَّذِي يَرَى الرَّأْيَ ثُمَّ يَبْدُو لَهُ وَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ بَيَانُ مُدَّةِ الْحُكْمِ أَلَا تَرَى الْإِحْيَاءَ بَعْدَ الْإِمَاتَةِ وَعَكْسَهُ وَالْمَرَضَ بَعْدَ الصِّحَّةِ وَعَكْسَهُ وَالْفَقْرَ بَعْدَ الْغِنَى وَعَكْسَهُ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ بَدَاءً فَكَذَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ.وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَسَخَ الْقُرْآنَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ الَّذِي هُوَ أُمُّ الْكِتَابِ فَأَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ وَالنَّسْخُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ أَصْلٍ.وَالصَّحِيحُ جَوَازُ النَّسْخِ وَوُقُوعُهُ سَمْعًا وَعَقْلًا.ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ: لَا يُنْسَخُ قُرْآنٌ إِلَّا بِقُرْآنٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} قَالُوا: وَلَا يَكُونُ مِثْلَ الْقُرْآنِ وَخَيْرًا مِنْهُ إِلَّا قُرْآنٌ.وَقِيلَ: بَلِ السُّنَّةُ لَا تَنْسَخُ السُّنَّةَ.وَقِيلَ: السُّنَّةُ إِذَا كَانَتْ بِأَمْرِ اللَّهِ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ نَسَخَتْ وَإِنْ كَانَتْ بِاجْتِهَادٍ فَلَا تَنْسَخُهُ حَكَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ النَّيْسَابُورِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ.وَقِيلَ: بَلْ إِحْدَاهُمَا تَنْسَخُ الْأُخْرَى ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ: الْآيَتَانِ إِذَا أَوْجَبَتَا حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَكَانَتْ إِحْدَاهُمَا مُتَقَدِّمَةً الْأُخْرَى فَالْمُتَأَخِّرَةُ نَاسِخَةٌ لِلْأُولَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ والأقربين} ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ منهما السدس} وَقَالَ: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أبواه فلأمه الثلث} قَالُوا: فَهَذِهِ نَاسِخَةٌ لِلْأُولَى وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُمَا الْوَصِيَّةُ وَالْمِيرَاثُ.وَقِيلَ: بَلْ ذَلِكَ جَائِزٌ وَلَيْسَ فِيهِمَا نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ وَإِنَّمَا نَسْخُ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» وَقِيلَ: مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ نَاسِخٌ لِمَا نَزَلَ بِمَكَّةَ.وَيَجُوزُ نَسْخُ النَّاسِخِ فَيَصِيرُ النَّاسِخُ مَنْسُوخًا وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دين} نسخها بقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} ثُمَّ نَسَخَ هَذِهِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: {حَتَّى يُعْطُوا الجزية عن يد} وَقَوْلِهِ: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} وناسخه قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} ثم نسخها: {حتى يعطوا الجزية}.
|